جوليا دومنا (170-217 م)

ابنة الكاهن «باسيان» الكاهن الأعظم في معبد إله الجبل «إيلاغبال» في حمص، كانت تتمتع بذكاء وثقافة واسعة، تزوجت من سبتيموس عام 175م وكان ليبيا من كبار الموظفين في روما ثم أصبح إمبراطوراً على روما عام 211م، افتتحت جوليا دومنا عهد الأباطرة السوريين الذين حكموا روما خلال عدة عقود بدءاً من ابنها كركلا وصولا الى فيليب العربي، هذا العهد الذي لخصه الشاعر اللاتيني “جوفينال” بعبارة شهيرة “لقد فاض نهر العاصي وغمر نهر التيبر”. حيث صدر في هذا العهد مرسوم كاركلا الذي ساوى بين مواطني الإمبراطورية الأحرار بتأثير من فقهاء مدرسة بيروت للحقوق (بابنيان، اولبيان)، وبتأثير من الفلسفة الرواقية، وكان لهذا دور في تطور وضع بعض المدن، والشخصيات السورية لتقفز إلى واجهة الأحداث وتتصدرها وصولا إلى قيادة أو تحدي روما كفيليب العربي وزنوبيا في القرن الثالث الميلادي وماوية في القرن الرابع الميلادي .

 تكن جوليا دومنا تلك الفتاة الحمصية بارعة الجمال تحلم قبل ألفي عام أن تصبح السيدة الأولى في قصر الإمبراطورية الرومانية التي كانت من أعظم الإمبراطوريات في ذلك العصر رغم أن النجوم قد بشّرتها بزواجٍ ملكي، على حد وصف المؤرخ (جان بابليون) وكان هذا كافياً لسبتيموس سيفيروس العربي الليبي أحد ثلاثة قادة للجيوش الرومانية في عهد أحد أباطرة الانطونيين (مارك أوريل أو ماركوس أوريليوس) كما يُسمى بالرومانية. كان هذا كافياً له لأن يعمل على الزواج منها، وهو العسكري المجبول على إطاعة الأوامر العليا كما يصفه بابليون وبخاصة إذا كانت تلك الأوامر آتية من السماء التي يجب اللجوء إليها في كل أمر عظيم.
 
كانت حمص في العصر الروماني مشهورةً بعبادة إيلا غابال (إله الشمس) الذي يرمز إليه حجر أسود مخروطي الشكل أُقيم في معبد الجبل، المعبد الكبير والهام في حمص، وهو مكان الجامع النوري الكبير حاليا، وكان الكاهن (باسيانوس الحمصي) هو المُولج برعاية هذا المعبد والعمل على خدمته، وكان لهذا الكاهن ابنة تدعى (جوليا دومنا) على قدرٍ كبيرٍ من الجمال والذكاء، وشاءت الأقدار أن يأتي إلى حمص القائد الليبي (سيبتيموس سيفيروس) بمهمة من الحكومة الرومانية للقضاء على الفوضى التي قامت فيها، ولقطع دابر الأشقياء والمفسدين، فقام بالمهمة خير قيام، وفي حمص تعرف على باسيانوس وأُعجب بابنته إعجاباً شديداً، وانتهى هذا الإعجاب بالزواج سنة 187 وجرى للعروسين احتفال أسطوري يليق بهما، ولم تأت سنة 193 حتى نادى الجيش بسيبتموس سيفيروس امبراطوراً على روما، وبذلك وُضع الأساس لصرح الأباطرة السيفيريين ذوي الأصل الحمصي عن طريق جوليا دومنا التي عملت على جلب أختها (جوليا ميسا) وابنتي اختها (جوليا سوميا) و(جوليا مامة) إلى مدينة روما حيث امتزجت أسماؤهن بتاريخ روما، واعتلين عرشها الإمبراطوري بالتتالي. 
 
العاصي والتيبر:
لم تكن سيدة القصر الإمبرطوري في روما (جوليا دومنا) امرأة عادية بل كتلة من المواهب العبقرية التي جعلتها تصنع جزءاً كبيراً من نجاحات زوجها الإمبراطور سيفيروس، وكأن مقولة " وراء كل عظيم إمرأة" التي تتردد كثيراً في أحاديثنا اليوم، كانت حقيقة مجسدة في ذلك العصر.
 
لقد اتصفت جوليا بكل الصفات التي جعلت منها أنثى استثنائية، وهي صفات كانت نادرة الوجود لدى السيدات الرومانيات آنذاك، من حدة في الذكاء، وسعة في الحيلة، وإصابة في الحس وعناد في الإرادة، وجرأة وإقدام، وقوة فكرية، واستطاعت جوليا بما أُوتيت من ذكاء وحزم وتخطيط أن تسهم مع زوجها في تصريف شؤون الإمبراطورية وأن ترافقه في رحلاته وانتصاراته حتى منحتها روما لقب "أم الوطن" ولقب "أم الشيوخ"، وأنشأت (جوليا دومنا) صالوناً ثقافياً في أثينا عرف بصالون الإمبراطورة، كان يتردد عليه عدد كبير من أدباء وفلاسفة ومفكري ذلك العصر، من أمثال الفيلسوف السفسطائي (أبولويانوس) والشاعر (أربياه) والطبيب البارع (واربا) والفيلسوف (أبوجين أرتيني) الذي أهداها كتابه (حياة الفلاسفة) والمؤرخ (أثينوس وماربوس ماكسيموس) والفيلسوف (هيرود أتيكوس) و(أبولي) أمين سر الإمبراطورية ومؤلف كتاب (الحمار الذهبي) والمؤرخ (هيبرابوليس) قنصل وحاكم أثينا الذي ألف كتاباً أسماه (تاريخ السيفيريين) و(إميل بابنياس) الذي يعتبر أشهر الفقهاء في العالم وفي كل العصور وقد ولد في مدينة حمص عام 142م وقتل عام212م بأمر من كركلا ابن جوليا لأنه رفض كتابة دفاع وتبرير لكركلا تبيح للأخير قتل أخيه غيتا دفاعا عن النفس وكان جوابه المشهور الذي قُتل بسببه (إن ارتكاب جريمة قتل الوالدين أيسر من تبريرها) ويعني تبرير قتل كركلا لأخيه وقال: (إن تبرير قتل النفس ليس أسهل من اقتراف القتل). 

وساعدت جوليا على انتشار النفوذ الثقافي السوري في روما، وأحاطت نفسها بعددٍ كبيرٍ من المفكرين والعلماء والأطباء السوريين، وهذا النفوذ هو الذي دعا الشاعر اللاتيني (جوفنال) لأن يتذمر في هجائيته المسماة "بابل" بأن نهر (العاصي) السوري أصبح يصب منذ زمن بعيد في (التيبر)، والحياة أصبحت في روما لا تُطاق من كثرة هؤلاء الأغراب الذين توافدوا على العاصمة واستقروا فيها. وقد لعب الجانب الديني دوراً كبيراً في ترسيخ هذا النفوذ، فسوريا في ذلك الوقت كانت موطن الديانات الشرقية، وموئل التدين والعبادات الشرقية في الوثنية الرومانية وكانت الشمس في المعتقد السوري أقوى الآلهة، فهي تتحكم بمسار الأزمنة والأشياء وتقود دورة النجوم وهي كما يقول "شيشرون" وهو "قائد وملك كل الأنوار السماوية الأخرى والعقل المدبر للعالم كله". ومن خلال معبد الشمس استطاعت حمص أن تتربع على عرش روما سيدة العالم في ذلك العصر لمدة خمسين عاماً تقريبا، كما استطاعت أن تفرض لفترة قصيرة عبادة إله الشمس الحمصي "إيلاغابال" الذي لا يُقهر كأعلى وأعظم الآلهة في مدينة روما ومن الأعمال العظيمة التي أنجزها سيفيروس مدرسة بيروت للحقوق التي أنشأها إكراما لزوجته جوليا دومنا وتعتبر أشهر مدرسة للحقوق الرومانية في التاريخ، وأطول المدارس عمرا رغم أنها لم تكن الوحيدة ومما يدل على أن سيفيروس هو الذي أنشأها المعبد الذي أقيم لسيفيروس في بيروت ووضع داخل المعبد تمثال له، و"اجتذبت مدرسة بيروت للحقوق كثيراً من الطلاب العرب والأجانب وذلك من مختلف مناطق الإمبراطورية الرومانية وكان من خريجيها كثير من الأباطرة ورؤساء الحرس الإمبراطوري والحكام القضائيين ورؤساء الديوان (الوزارة) وكثير من الوزراء والعظام وكان لأساتذة المدرسة شهرة فائقة وتأثير كبير في مؤلفاتهم على الحقوق الرومانية وهذا ما جعل مدرسة بيروت للحقوق أكاديمية جامعية ذات شهرة عالمية" (دراسة بعنوان الأثر الشرقي في القانون الروماني – اللاتيني بقلم أحمد غسان سبانو، مجلة التراث العربي، دمشق العدد الأول، السنة الأولى تشرين الثاني 1979).
وقد قضى زلزال حدث في عام 551 م على المدرسة وهدمها فوق طلابها وأساتذتها كما هدم مدينة بيروت وذهب ضحية هذا الزلزال ثلاثون ألف شخص من سكان بيروت ومنهم عدد كبير من الطلاب الأجانب أبناء الأسر النبيلة. وعُثر على بقايا لهذه المدرسة منذ سنوات أثناء تجديد وسط مدينة بيروت.
 
"أيلا غابال":
بعد وفاة (سيبتيموس سيفيروس) في إحدى معارك الرومان في بريطانيا بقيت الأسرة السيفيرية مسيطرة على حكم روما من خلال ابني سيفيروس من جوليا دومنا(كراكلا) و(جيتا) ولكن صراعاً دموياً نشب بين الأخوين اللذين كانا يكنان لبعضهما منذ الطفولة أشد أنواع البغض والكراهية، ولذلك حاول كركلا وهو الأكبر أن يجعل نفسه الحاكم الوحيد لروما، وفي سبيل ذلك دبّر اغتيال أخيه (جيتا) وهو في جناح والدته الخاص، وكان (جيتا) قد دُعي إلى ذلك الجناح للتوفيق والصلح مع أخيه كراكلا وأُصيبت جوليا نفسها بجراحٍ في يدها أثناء محاولتها حماية ابنها، وقد حدث ذلك في سنة/112/ وهي السنة التي منح فيها (كراكلا) حق الرعوية الرومانية (المواطنة بالمفهوم المعاصر) لجميع سكان الولايات الأحرار، وكان آنئذٍ في الثالثة والعشرين من عمره، ومنذ ذلك الحين حُكم على الإمبراطورة الوالدة التعيسة أن تبكي على موت الولد الراحل وعلى حياة ابنها الآخر غريب الأطوار. 

وقفت والدة كراكلا مكتوفة اليدين تجاه تصرفات ولدها، ولم تجرؤ على ذرف دمعة واحدة على ابنها الذي مات غيلةً، وبعد خمس سنوات من توليه الحكم في روما قُتل كراكلا على يد قائد الحرس القضائي (ماكران) الذي نصّب نفسه بدلاً عنه، ولما بلغ جوليا ذلك وهي في أنطاكيا أُصيبت بحالةٍ شديدة من الحزن والكآبة، وقد دفعتها هذه الحالة إلى محاولة الانتحار جوعاً، ليس بسبب موت ابنها المكروه (كراكلا) بل لأنها لم تستطع التفكير بالعودة إلى الحياة العادية بعد أن كانت تأمل أن تصبح الحاكم الوحيد لروما، وأن تجعل نفسها معادلةً لسمير أميس، ونجحت أخيرا محاولاتها المتكررة في الانتحار، وحُمل رماد جسدها، ووضع في مدفن "أوغست" في روما دلالةً على المكانة الكبرى التي تمتعت بها عند الرومان، وأعاد "ماكران" أختها وابنتيها مع حاشيتها إلى حمص، إلا أن الفرقة الرومانية الثالثة المؤلفة من الجنود السوريين أعلنت "أفيتوس" ابن كركلا ابن (جوليا سوميا) إمبراطوراً بعد إعلانه الانتصار على ماكران وتم الأمر لافيتوس الذي غلب عليه اهتمامه بالجانب الديني، وأصدر أوامره بأن تُقام الطقوس الدينية للإله (ايلاغابال) في جميع أنحاء الإمبراطورية، بل واصطحب معه الحجر الأسود من حمص إلى روما، وبنى له معبداً خاصاً على شاكلة معبد حمص في موقع كنيسة "سباستيان" الحالية كما رفع مدينة حمص إلى مصاف ميتروبول المدن الكبرى.
 
وقُتل أفيتوس غيلة أيضاً، فحكم من بعده الإسكندر سيفر ووالدته (جوليا مامة) ابنة شقيقة (جوليا دومنا) الذي قتل هو الآخر على يد أحد قواده، وبزواله زال حكم السلالة السورية من روما، كما زال السلم وعمّت الفوضى في أرجاء الإمبراطورية الرومانيـة.